[img]
[/img]
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعده.مدخل وتمهيد:فمِن سنة الله - تعالى - ألا تخلو الأمةُ مِن قائمٍ لله بالحجة، ومِن ناصحين يَبغون لها الخير، ويرفعون عنها الغشاوة، ويوضحون لها الطريق، يُكابدون ويتعبون ونصيبُهم المطاردة والعداوة، وقد يصل الأمر إلى الحبس والتنكيل والتشريد والتقتيل، وكم عانت الأمة وما زالت، والأسباب يعرفها العاميُّ على بساطته، كما يعرفها الخاصة على اختلاف تخصُّصاتهم، وتلتقي في كلمة واحدة، وهي قطْع ما أمر الله به أن يوصل في السياسة، كما في الاجتماع وفي التعليم، كما في التربية وفي البيوت، كما في النفوس وفي الأسرة، كما في المجتمع.
ضلالة "فصل الدين عن الواقع"، ضلالة فصل "العمل عن القول"، ضلالة "فصل العلماء عن الأمراء"، كلها قطْع لما أمر الله به أن يوصل، والإسلام كلٌّ لا يتجزأ، هو حقيقة واحدة، هي تعبيد الناس لربٍّ واحدٍ أحد، هو ربُّ العالمين، له الخلق والأمر، بيده ملكوت كل شيء، وإليه يُرجَع الأمر كله؛ ﴿ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 2-3].
ومعاناة الأمة لم تُفقدها الصلةَ فيما بينها وإن ضعُفت وتمزَّقت أوطانُها؛ لأن سلطان الإسلام على النفوس ما زال يعمل، وسيستمر - إن شاء الله - ما دام هناك أمر بمعروف ونهي عن منكر، ونصح وإرشاد، يصاحبها إخلاص وعمل، وصدق توجُّه لله الواحد القهار.
يقول العلامة محمد البشير الإبراهيمي - رحمه الله وطيَّبَ الله ثراه -: "ما زال الإسلام - وإن ضعُفت آثارُه في نفوس أهله، وضعُفت عقولُهم عن فهم حقائقه - يشعُّ بالروحانيات التي تقهر المادةَ وتغلبها على سلطانها، حتى في أيام صولتها وحولها، وما زال يجمع قلوبَ أبنائه على نوعٍ غريب من الأخوة تُنسيهم إياه الأحداثُ، ثم يَتنبَّه في نفوسهم بأيسرِ مُنبِّه.
أمعنت عوامل الشرِّ في تشتيت المسلمين والتبعيد بين قلوبهم باختلاف المذاهب والمَنازع في الدين والدنيا، وبين أبدانهم بالسدود المانعة، والحدود الفاصلة، وبين ألسنتهم بكثرة اللغات والرطانات، ولكن قوة الروحانية في الإسلام تغلَّبتْ على تلك العوامل كلِّها، وأبقتْ في نفوس المسلمين سِمةً ثابتة لا تَنمحي، ولكنها تختفي حتى تظنَّ بها الظنون، ثم تستعلن فتخيب الظنون.
ولو أن أمة ذاتَ دين ظهر بها وظهرت به، ثم أصابها بعضُ ما أصاب المسلمين من انحلال وتفكك وبلايا ومِحَن، لَنسيتْ دينَها أو لَكفرتْ به، ولم يبقَ مِن آثاره فيها ولا مِن آثارها فيه شيء، ولكنَّه الإسلام، ولكنه سلطان الإسلام على النفوس"[1].
وقد استخرجنا هذه الكلمات للعلامة الإمام محمد البشير الإبراهيمي، وهي خطاب للأمة، وإرشاد لكلِّ مَن يعمل بصدق، كما أنها بيان لمكانة الدِّين في توجيه الحياة، ودور التربية في إصلاح المجتمع.
كما أن كلمات الشيخ البشير الإبراهيمي توجيه للشباب والعلماء والأحزاب أن يبدؤوا بالتربية مصحوبةً بالتعليم، ويبتعدوا عن الشقاق والنزاع والكذب والتلفيق، المؤدِّي إلى الفشل، والمُضيِّع للجهود.
هي كلمات توجَّه لكل الأمة، وهي صرخة نذير عريان.
وتعجب حينما تجد هذه الكلمات مِن عالِم مُصلح مناضِل من بلاد المغرب الإسلامي العربي، يذكر فيها مصر، ولكن لا تلمح تقسيمًا للدول، كما أن القيم أصل لا يتجزأ، وهذا يجعلنا نعي معنى الأمة الجسد، التي إذا اشتكى منها عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمى؛ فهي كلمات للأمة الإسلامية، أمة التوحيد والشهادة، أمة الدعوة والتوجيه والعمران والقيادة.
فهي للقادة والساسة، كما هي للعلماء والشباب؛ بل لعموم أمة الإسلام؛ لنعود بالأمة إلى ربها مستمسكةً بدينها، مُصلحة لذاتِ بينها، مُعمِّرةً لكونِ الله بأمر الله، مُقتديةً بخاتم رسل الله.
تعريف بالمصلح الإمام محمد البشير الإبراهيمي - رحمه الله -:كاتب هذه الكلمات ونصَّاح الأمة هو: محمَّد بن بشير بن عمر الإبراهيمي، مجاهد جزائري، مِن كبار العلماء، انتُخب رئيسًا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ولد ونشأ بدائرة سطيف (اصطيف) في قبيلة ريغة الشهيرة بأولاد إبراهيم (ابن يحيى بن مساهل)، من أعمال قسنطينة، وتفقَّه وتأدَّب في رحلة إلى المشرق (سنة 1911)، فأقام في المدينة إلى سنة 17، وفي دمشق إلى حوالي 1921، وعاد إلى الجزائر وقد نشطت حركة صديقِه ابن بادِيس (عبدالحميد بن محمد)، وأصبح له نحو ألف تلميذ، وأنشأ جمعية العلماء (1931)، وتولى ابن باديس رئاستها والإبراهيمي النيابة عنه، والمرحلة الأخيرة (1962 - 1965)، وهي التي عاد الإبراهيمي فيها إلى وطنه بعد استعادة الاستقلال، حتى وفاته في 20 مايو 1965.
يقول نجله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي: لقد سمعت الشيخ العربيَّ التبسي[2] - رحمه الله - يردِّد في كثير من مجالسه: "إن الإبراهيمي فلتة مِن فلتات الزمان، وإن العظمة أصلٌ في طبعه"، والعظمة الحقيقية - في رأيي - تَكمُن في القلب، والحقيقة: إن الإبراهيمي كان عظيمًا بعقله ووجدانه، بقلبه ولسانه، فكل مَن تقلَّب في أعطافه نال مِن ألطافه، فالقريب والرفيق والسائل والمحروم والمُريد والتلميذ، يجد فيه الأب الشفيق والأخ الصديق، الذي لا يبخَل بجهده وجاهه وماله - وإن قلَّ - لتفريج الكروب وتهوين الخطوب، وما تقربتَ منه إلا ملَكَ قلبَك بحلمه، وغمَر نفسك بكرَمه، قبل أن يشغل عقلَك بعِلمه، ويسحر لبَّك بقلمه، وكانت الخصال البارزة فيه: الإيثار، والحلم، والوفاء.
وفي تحديد هذه الشخصية يقول أحد رفاقه، الأستاذ أحمد توفيق المدني - رحمه الله - عندما تبوأ كرسيه في مجمع اللغة العربية بالقاهرة: "… فتقدم الإبراهيمي الأمين يحمل الراية باليمين، لا يأبه للمكايد ولا للسجون، ولا يبالي بالمنافي في الفيافي، بل دخل المعمعَة بقلب أسد، وفكْر أسد، ووضع في ميزان القوى المُتشاكِسة يومئذٍ تلك الصفات التي أودعها الله فيه:
• علمًا غزيرًا فياضًا، مُتعدِّد النواحي، عميق الجذور.
• واطلاعًا واسعًا عريضًا، يُخيِّل إليك أن معلومات الدنيا قد جُمِعَت عنده.
• وحافظة نادرة عزَّ نظيرُها.
• وذاكرة مرنة طيِّعة، جعلت صاحبَها أشبه ما يكون بالعقل (الإلكتروني).
• كدائرة معارف جامعة سهلة التناول من علوم الدين، التي بلغ فيها مرتبة الاجتهاد بحق، إلى علوم الدنيا مهما تبايَنت واختلفت، إلى شتى أنواع الأدبَينِ القديم والحديث بين منظوم ومنثور، إلى تاريخ الرجال والأمم والدول، إلى أفكار الفلاسفة والحكماء مِن كل عصر ومصْر، إلى بدائع المُلَح والطرائف والنكت، كل ذلك انسجم مع ذكاء وقَّاد، ونظرات نافذة، تخترق أعماق النفوس وأعماق الأشياء.
• وفصاحة في اللسان، وروعة في البيان، وإلمام شامل بلغة العرب، لا تَخفى عليه منها خافية، وملَكة في التعبير مُدهشة، جعلتْه يستطيع معالجة أي موضوع ارتجالاً على البديهة، إما نثرًا أو نظمًا.
• ودراية كاملة بجميع ما في الوطن الجزائري، يُحدثك حديث الخبير عن أصول سكانه وقبائله، وأنسابه ولهجاته، وعادات كل ناحية منه، وأخلاقها، وتقاليدها، وأساطيرها الشعبية، وأمثالها، وإمكاناتها الاقتصادية، وثرواتها الطبيعية.
• كل ذلك قد تُوِّج بإيمان صادق، وعزيمة لا تلين، وذهن جبَّار، مُنظَّم، يُخطِّط عن وعي، وينفِّذ عن حكمة، وقوة دائبة على العمل، لا تَعرِف الكلل ولا الملَل.
هذا هو البطل الذي اندفعنا تحت قيادته الموفَّقة المُلهمَة نخوض معركة الحياة، التي أعادت لشعبنا بعد كفاح طويلٍ لسانَه الفصيح، ودينه الصحيح، وقوميَّته الواعية الهادفة"[3] [4].
يتبع