الشيخ مصباح الحويذ ق
العالم المنسي
وأنت تقرأ عن علماء الأمة الصادقين وعن مواقفهم تأخذك الحسرة، ومن شدة الحسرة تحبس العبرة....
وأنت تجول بخاطرك بين محطات حياة الواحد منهم تختلط عليك مشاعر الألم والأسى بمشاعر الإعتزاز والعزة والفخر والشهامة...
والشيخ مصباح الحويذق هو واحد من علماء الأمة ورجالاتها الأفذاذ الذين وهبوا أنفسهم وضحوا بحياتهم من أجل أن تبقى راية الإسلام خفاقة في بلادنا، ومن أجل أن تعيش أمة الإسلام عزيزة مكرمة، فهل عرفت الأمة قدر هذا العالم العامل..؟..
إن أعداء الأمة وأعداء الوطن يحاولون جاهدين لطمس ذاكرة الأمة، ولاستبدالها بذاكرة مزيفة مغشوشة، والشيخ مصباح هو من الأشخاص الذين طالهم التهميش ومحاولة الطمس والمحو من الذاكرة، لا لشيء إلا لأنه قال كلمة الحق في زمن لبس فيه الدين على الناس، فلكي يطمسوا الحق حاولوا طمس حامليه، وبالمقبل فإن نصر الحق وإظهاره يكون بنصر حامليه وإظهارهم للناس...
المولد والنشأة:
ولد سنة 1902م بقرية الطريفاوي ولاية الوادي، حفظ القرآن بمسقط رأسه وأتمه سنة 1917م، وتلقى الفقه والنحو على يد مشايخ من الوادي.
ثم تاقت نفسه للإستزادة من العلم فقصد الزيتونة بتونس سنة1931م وإلى غاية 1938م .
وباشر التربية والتعليم سنة1942م ، معلما ومديرا لعدة مدارس، وكان رحمه الله حريصا على طلب العلم من الصغر وحتى في كبره فليس له كلام مع الشباب إلا في العلم ، والترغيب في طلبه والحض على التوجه إلى الزيتونة للأخذ عن شيوخه.
ثم انتقل إلى مستغانم سنة1954م مرشدا ومربيا ومحرضا( وكان قد كلف بهذه المهمة من طرف جمعية العلماء المسلمين) ، وكان من جملة أصدقائه وزملائه في مستغانم مجاهدون وأئمة كالشيخ الياجوري وسي خالد وغيرهم.....
وكان شديد اللهجة ضد المستعمر، يحرض المسلمين ضده، ويوجه الشباب الراغب في الجهاد إلى ساحاته، وهكذا ظل يعمل لصالح الجهاد حتى اكتشف أمره من طرف المستعمر فاعتقل يوم 25مارس 1956م،وبعد التعذيب والتنكيل نقل إلى سجن بوسوي في شرق البلاد، والتقى به برفقاء دربه السيخين: عمر العرباوي وأحمد سحنون، وبقي سجينا مدة ثلاث سنوات وتسعة اشهر ، أفرج عنه يوم 19 ديسمبر1960م.
ثم انتقل إلى وهران وأنشأ مدرسة قرآنية فأحرقتها العصابة السرية (لووايس)سنة1962م، ثم انتقل إلى الحراش إماما بإحدى مساجده.
موقفه من الإشتراكية :
إن الشيخ مصباح الحويذق عالم قد حصل عنده فرقان بين الحق والباطل، فحصل عنده بعدها صدع بالحق في وجه الباطل وأهله...
لقد هاله كغيره من العلماء المصلحين ما آل إليه حال البلاد بعد خروج فرنسا من الجزائر، ورأى كيف كفر القوم بنعمة النصر وانسلخوا من الإسلام وتنكروا لمبادئ وأسس ثورة التحرير التي قامت على الإسلام ومن أجل أن يحكم هذا الشعب بالإسلام، الثورة التي بدأها الصالحون الرجال المؤمنون، ثم قطف ثمرتها في الأخير الإنتهازيون، الذين اختاروا الإشتراكية نظاما تسلطوا به على رقاب الأمة، فانتفض الشيخ من عرينه منكرا على رهط المفسدين ، ومسفها أحلامهم وأمانيهم، وهادما صنم الإشتراكية وكل ما يضاهي شرع الله تعالى، وكاشفا عوار نظمهم المشينة الهزيلة.
لكنه قوبل بما يقابل به الدعاة المصلحون من قبل المفسدين المبطلين الماكرين
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)، وكان نصيب الشيخ المجاهد والعالم الصادع بالحق من مكر الماكرين إخراجه من الحراش ونفيه إلى مستغانم في حالة يبكي لها الجماد والحجر...
.نعم إن مستغانم هي دار الشيخ وبلده كما الحراش داره وبلده، وأهلها هم أهله..لكن الإجبار على ذلك هو إذلال واستبداد، فحتى فرنسا لم تنفه أو تخرجه كما أخرجه هؤلاء، بل ذهب مختارا إلى مستغانم معلما ومجاهدا ومحرضا....فهل ضاق به وطنه في زمن يسمى بزمن الإستقلال في حين أنه كان واسعا عليه أيام فرنسا الإستدمارية.
إلا أن الشيخ مصباح كان عزيزا بدينه وعقيدته ومبادئه، كما كان عزيزا يوم أن سجنته فرنسا خمسة وأربعين شهرا(ثلاث سنوات وتسعة أشهر)، وكذلك كان عزيزا يوم أن اضطهده أبناء فرنسا بعد خروج فرنسا...
وبقي بمنفاه حتى توفي رحمه الله يوم: 26ـــ02ـــ1973م بمستغانم.
إيه هل يدري المسلم كيف مات الشيخ العالم المجاهد الصادع بالحق في جزائر الإستقلال... لقد اغتيل وهو أسير...قتل رميا من الطابق العلوي بسجن الدرب بمستغانم...ما أحسن أثركم على القوم وما أسوأ أثرهم عليكم يا علماءنا الأجلاء...........
وقد رثاه صديقه ورفيق دربه وقرينه في محنتيه (محنة الإستدمار ومحنة من خلفهم) الشيخ أحمد سحنون بقوله:
( دمعة على مصباح )
مات مصباح فانطفأ مصباح ودجى الليل واختفى الإصبــاح
وعرا صفحة السماء قطوب وكسا الكون من أساه وشـــــاح
وسرى في النفوس حزن وذعر وتوارى السرور والإنشـــراح
إنه الموت إن بدا تكتســـــــي الدنيا اكتئابا وتنطوي الأفـــــراح
غير أنا إن غاب مصباح عنا لم يغب علمه ولا الإصـــــــلاح
كان سيفا لم يعرف الغمد يوما عاش يُحمي به الهدى والصلاح
كان مصباح ثورة تفزع البغي ونـــارا لـهـيـبـهـا يــجــتــــــــاح
عاش مصباح مثلما عـــــــاش مصباح ضياء تهفو لـــه الأرواح
قاهرا للظلام لم يثنه الإعصار يــومــا ولـــم تـخـفـه الــريـــــاح
طاهر الثوب طاهر الـقـلــــب بسام الـمـحيـــا عـــبيــره فـــواح
وقضى مبــــعدا وقــــد هـــده طـول الــكفـاح وأثخنته الجــراح
أيذاد عن الحــمى كــل صـب بـــحـمـاه وللـــعدو يــبــــــــــــاح
يا أخا حبه وفـــــــاء وصــدق وهــــواه هـو اللــباب الـــصـــراح
لم يخف بطش مســتــبــد ولـم يرهبه جــــيش ذو سطوة أو سلاح
كنت لا تعرف القرار كطـــير دأبه الـــوثب والــــغنا والصــــداح
كنت رمز الثبات والصــــــبر كـالـطـود الـذي لا تهزه الأريــــاح
إنه الموت لا مفر من الـموت وكــــــل لــه انــتهـــــاء يـــتـــــاح
وحياة الإنسان في هذه الدنيــا كسجن والموت فيهــــــــا ســـــراح
يا أخا من صـــفاته الصــــدق والإخلاص والنبل والندى والسماح
وبها أحرز النجاح وهل يحرز إلا بــــمـثـلــهــن الــنــجـــــــــاح
عشت عمرا من الكفاح طويلا نم قريرا فما عليـــــــك جنـــــاح
وقال :
( ذكرى مصباح )
ذكرت خلال سجني بالمنزل أخي (مصباح الحويذق)وما كان من إبعاده وموته مبعدا عن محل سكناه(بالحراش) فأوحت إلي ذكراه الأليمة بالقطعة التالية:
إذا تذكرت مصباحا بكيت أسى وقلت أين رفاقي كلهم ذهبوا
إذا بقيت ولم ألحق بهم بقيت نفسي بغربتها تبكي وتنتحب
وغربتي فقد أصحابي ومن فقدوا أصحابهم فهموا حقا قد اغتربوا
مصباح عنوان آداب ورمز علا ونبع صدق بدنيا أهلها كذبوا
مصباح قد عاش مصباحا لأمته فحين مات توارى النور واللهب
قد عاف دنيا يهان الصالحون بها ولا يراعى بها فضل ولا أدب
ليست بدار مقام وهي راحــــلـــة والصفو منعدم والشمل منشعب
ما أحسن أثرك على الناس يا شيخنا وما أسوأ أثرهم عليهم...
لئن لم يعرفك كثير من الناس فقد عرفك العلماء والصالحون ، وقد عرفتك حلقات الزيتونة وعرفتك المدارس والمعاهد وميادين الجهاد......
لئن نسي الناس ذكراك فالتاريخ لم ولن ينسى مآثرك ومواقفك المشرفةن وستذكرك الأجيال بالذكر الحسن ولو بعد حين...
عشت صامدا أبيا مؤثرا للحق على الباطل...
لم تلتفت إلى عيشة الأضواء والغوغاء والمباهاة والترف.....
عشت لأمة خالدة فسلام على روحك في الخالدين.....
أخوكم العرباوي.