سم الله الرحمن الرحيم
إن من بعض حق رجالات الأمة علينا أن ننشر سيرتهم ومواقفهم، ونقف وقفة معتبر ومستقرئ لتلك المواقف، لنتزود بذلك في إكمال مسيرتنا وبلوغ غايتنا
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الالباب ما كان حديثا يفترى).
ومن هؤلاء العلماء الربانيين الذين أضاءوا سماء الجزائر وكانوا نبراسا يهتدى به في ديجور الظلام للوصول إلى بر الأمان: الشيخ العرباوي رحمه الله، الذي ضرب لنا أروع الأمثلة في الثبات على الحق، وفي الصبر على محن الطريق وفتنه، في زمن عصيب قلّ فيه الصادعون بالحق، عاش شامخا لم تؤثر فيه المصائب والابتلاءات، عزيزا بدينه وعقيدته لم تغره الشهوات ولم تثنه التهديدات والعقبات، وها نحن نؤدي بعضا من هذا الحق نحو علمائنا، بالوقوف عند بعض محطات حياة هذا العلم الشامخ بحسب الطاقة والجهد، وهي باقة نهديها إلى كل العاملين في الحقل الإسلامي المخلصين لربهم ولمبادئهم ( من المومنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا).
اسمه ومولده: هو عمر بن الشيخ صالح بن عبد الكريم، وأمه فاطمة بنت بلقاسم، ولد رحمه سنة: هـ ـــ1907م بقرية سيدي عيسى التابعة لولاية المسيلة، واسمه في الوثائق الإدارية هو الحملاوي العرباوي.
نشأته:
نشأ رحمه الله في بيت من بيوت أهل القرآن، فوالده الشيخ صالح كان معلما للقرآن، فحفظ عنه ابنه الشيخ عمر بعضا من القرآن، ثم انتقل إلى زاوية الشيخ سعد بو طويلي بشلالة العذاذرة(ولاية المدية) فأتم بها حفظ القرآن وهو لم يتجاوز سنه الخامسة عشر من عمره، ولكون والده لا يستطيع تسديد ما يحتاجه ولده، اقام الشيخ العرباوي عند عمته ببئر خادم بالعاصمة، وزاول هناك مهنة جني المحاصيل في المزارع، وفي هذه الفترة انتقل إلى زاوية سيدي المهدي بالبليدة فأخذ بها الفقه والحديث و التفسير وغير ذلك من العلوم.
وكان رحمه الله شغوفا بالعلم وبطلبه، حتى أنه باع غنمه لشراء كتاب مختصر الشيخ خليل المالكي.
وفي سنة: 1939م ـ أرغم على المشاركة في الحرب العالمية
الثانية، فأخذ إلى بلجيكا لكنه سرعان ما فر متجها إلى تونس ثم إلى البليدة بالحلوية.
ثم أسس مدرسة يعلم فيها الناس أمور دينهم، ويؤمهم للصلاة فيها، وبعد ها رجع إلى مسقط رأسه بالمسيلة وصار إمامهم في الصلاة ومعلمهم وواعظهم.
الشيخ في جمعية العلماء المسلمين: كان على صلة بعلماء الجمعية البارزين، كالشيوخ: البشير الإبراهيمي والعربي التبسي والطيب العقبي و أحمد سحنون، وكان انضمامه للجمعية أواخر الأربعينيات.
وفي سنة: 1949م انتقل إلى السحاولة فتزوج هناك وأنشأ مدرسة قرآنية.
وبعدها درس بالتهذيبية ببولوغين، بمسجد بلوزداد وهذا إلى غاية 56م سنة اعتقاله، وشغل منصب رئيس شعبة الجمعية بالعاصمة.
الشيخ وثورة التحرير: كان كغيره من المسلمين الجزائريين الأحرار الذين يتوقون للحرية، وكان لجمعية العلماء نصيبها من هذا الشعور والأمل، فلبت النداء من أول يوم بدأت فيه ثورة الحرية، وقسم الشيخ العربي التبسي المهام على أعضاء الجمعية، فكان نصيب الشيخ العرباوي ثقيلا، إذ كان مكلفا بالخطابة والتحريض للجهاد ضد فرنسا، وكلف كذلك بتوجيه الراغبين للإلتحاق بميادين القتال، وبجمع المال والسلاح وإرساله للثوار،
فعلم العدو الفرنسي بذلك، فاعتقلوه بعدما اعتلى منبر الجمعة من رمضان سنة:1956م، فعذب وسجن، ومر بعدة سجون: بدءا بالبرواقية فبوسوي ثم آركول، وقد التقى في البرواقية برفقاء دربه الشيخين: أحمد سحنون ومصباح الحويذق، ومكث في السجن حوالي خمس سنوات ونصف، وفي 1961م، أفرج عنه ليبقى تحت الإقامة الجبرية لغاية خروج فرنسا سنة1962م.
وبعدها عاد ليِؤم المصلين ببلكور كمتطوع ثم منه إلى الحراش فسكن بها ودرس بها حتى وفاته رحمه الله، وفي 75م أحيل على التقاعد، لكنه لم يترك الدعوة والإرشاد ، فدرس بمسجد باب الواد خمس سنوات متتابعة.
مؤلفاته:
ــ الإعتصام بالإسلام: وألفه في فترة حكم الإشتراكية بالجزائر.
ـــ كتاب التوحيد المسمى ب: التخلي عن التقليد والتحلي بالاصل المفيد: وقد سلك فيه رحمه الله طريق أهل السنة والجماعة في تقرير عقيدة السلف.
تلاميذه: من تلاميذه الشيخ علي بلحاج. والهاشمي سحنوني ، وعبد الناصر علمي رحمه الله وغيرهم.
مواقف الشيخ:
ونعني بها بعض المحطات الهامة من حياة الشيخ التي تستدعي منا الوقوف عندها وأخذ العبرة والدروس، ولعل هذا هو الهدف الأسمى من تراجم العلماء، فإليكها:
حرص على العلم من الصبى: وتمثل هذا في بيعه وهو صغير لغنمه ليتنسنى له شراء الكتاب الفقهي(مختصر خليل)، وكما قيل البداية تدل على النهاية، فإن الذي يضحي ولو بالشيء القليل من أجل العلم ومن أجل فهم الإسلام سيتربى على التضحية في الأمور العظام بالشيء العظيم، فمن باع غنمه من أجل تعلم الإسلام حتما سيبيع نفسه لله ويضحي بكل شيء من أجل دينه وعقيدته، وهذا رأيناه جليا في حياة الشيخ رحمه الله.
تقوى وعبادة: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، والذي لا يزيده العلم خشية بالله فليس بعالم
إنما يخشى الله من عباده العلماء)، فالعلم يدفع بصاحبه إلى رياض الخشية من الله والحب فيه، ويتجلى ذلك في عبادته والتزام طاعته، ولشيخنا نصيب وافر من ذلك، صلى لله ركعتين بالقرآن كاملا ولم يتعدى سن الخامسة عشر، فياله من اصطفاء واختيار.
موقفه من الإشتراكية التي اختارها المسؤولون بعد خروج فرنسا:: لقد آلمه حال الجزائر آنذاك، يقول رحمه الله في كتاب التخلي
لما طرد الإنتصار على العدو وطرد من البلاد أخذ الجزائريون زمام الحكم بايديهم، ولكن سرعان ما تنكر بعض الشباب للدين ولعوائده وأخلاقه وقطعوا صلتهم به، لعبت المادة والشهوات بعقولهم فراجت موجة ناتجة من الإلحاد كادت أن تعم طبقات الشعب، وأصبح الإسلام يتهم بالرجية والتأخر..) انظر كتاب التخلي عن التقليد.
وقد كان من الأوائل الذين عارضوا اختيار النظام الجزائري لمنهج الإشتراكية بعد خروج فرنسا، ورفض لقاء المسؤول الأول آنذاك، وشن حملته على الإشتراكية وأهلها، بخطبه التي كان يلقيها بمساجد العاصمة ودروسه التي يتلقاهل عنه تلاميذه، وكذا بكتاباته فألف في ذلك كتابه(الإعتصام بالإسلام) ، مبرزا فيه محاسن الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان، وفاضحا الإشتراكية مبينا مثالبها وقبائحها(انظر كتابه الإعتصام بالإسلام).
لقد قام الشيخ رحمه الله بما يجب أن يقوم به العالم الرباني الذي عاهد الله على الصدع بالحق والتبليغ التام والكامل، فلاقى جراء كلمة الحق ما يلاقيه كل مصلح من عصبة الظلم والإستبداد واسترقاق الشعوب، فضيق عليه و وهمش وأصبح مراقبا من طرف أناس أفنى عمره من أجل أن يعيشوا أحرارا، وصار وطنه في هذا الزمن أضيق عليه من زمن فرنسا، ولازمه هذا الإضطهاد إلى وفاته رحمه الله.
موقفه من التشيع والثورة الإيرانية: كان الشيخ عالما بواقعه وبما يحاك ضد الإسلام وأهله، شأنه في ذلك شأن كل علماء جمعية العلماء رحمهم الله، فكان بصيرا بحال الرافضة وعقائدهم وما يصبون إليه من تصدير لثورتهم الإيرانية، فوقف لهم بالمرصاد، وكان صخرة من جملة الصخور الصماء العاتية التي وقفت في وجه الباطل بكل أنواع الباطل وألوانه في بلاد الجزائر، فكان ينصح الشباب بعدم الذهاب إلى إيران لطلب العلم، وحدث مرة أن ألقلى أحد المتشيعة دس الجمعة بالحراش ممجدا فيها الثورة الإيرانية، فما كان من الشيخ غلا أن نهض واعتلى المنبر قبل انتهاء الدرس معلنا بذلك إنهاءه، خطبته حول الثورة التحريرية الجزائرية وإسلاميتها، ردا على الشيعي وإبطالا لما ألقاه في درسه.إن الشيخ العرباوي بمواقفه هذه وغيرها، يذكرنا بالرعيل الأول من سلفنا الصالح، في صلابتهم وثباتهم، وصدعهم بكلمةالحق لا يبالون بمن قيلت له أو عليه.
وفاته: بعد حياة ملؤها الصدق والثبات على الحق توفي الشيخ رحمه الله يوم:الأحد 09ربيع الأول 1405هـ ــ02 ديسمبر1984م، ودفن بمقبرة سيدي رزين على الطريق الرابط بين الحراش وبراقي.
لله درك يا شيخ لم تغرك الدنيا وقد أغرت الكثيرين.
ولم تركن إلى الظالمين وقد ركن إليهم الكثيرون.
لم تصب في عزيمتك وأنت ترى قلة سالكي طريق الحق وكثرة سالكي طريق الباطل متمثلا قول الشاعر:
فإن تسألوني كيف أنت فإنني صبور على كيد الزمان صليب
يعز علي أن ترى بي كآبة فيشمت عاد أو يساء حبيــــب
عشت شامخا عزيزا بدينك غير ملتفت لدعوات الإستقالة والإستسلام والهوان.
نم في مرقدك قرير العين هنيء الضمير فقد أتت شجرتك التي سقيتها أنت ورفقاؤك من العلماء المصلحين أكلها بإذن ربها.
إيه يا شيخ لو ترى أبناءك اليوم وهم يصدحون بدعوتكم ويقرؤون كتاباتكم التي كانت بالأمس القريب ممنوعة وجريمة من الجرائم، وكأن الحق لا ينتشر إلا بموت أهله أو استشهادهم.
فسلام على روحك في الخالدين، و جزاك الله عنا وعن الجزائر خير الجزاء ورحمك الله في الأولين والآخرين.
أخوكم العرباوي.