عناية السلف بالأمر والنهي
وقد مر في كلام النووي التنبيه على عناية السلف بهذا الواجب الديني الإجتماعي وعدم مبالاتهم في تنفيذه بالأمراء وموافقيهم في هذا الباب لا يتسع لها كتاب.
يعيد بن مسيب والدولة الأموية
ولكني أقتصر منها على قصتين إحداهما عن المطلب بن السائب، قال:
(( كنت جالسا مع سعيد بن المسيب في السوق فمر بريد لبني مروان، فقال له سعيد: (( من رسل بني مروان أنت? قال: نعم ، قال: كيف تركت بني مروان? قال: بخير، قال: تركتهم يجيعون الناس ويشبعون الكلاب، فاشرأب الرسول، فقمت إليه، فلم أزل أرجيه حتى انطلق، فقلت لسعيد: يغفر الله لك، تشيط بدمك? فقال: اسكت يا أحمق، فوالله لا يلمسني الله ما أخذت بحقوقه)) .
ذكرها الذهبي في تذكرة الحفاظ
الأوزاعي والأمير العباسي
ثانيتهما عن الفريابي قال: اجتمع سفيان والأوزاعي وعباد بن كثير بمكة فقال سفيان: يا أب عمرو حدثنا حديثك مع عبد الله بن علي عم السفاح، فقال: لما قدم الشام وقتل بني أمية جلس يوما على سريره وعبى أصحابه أربعة أصناف: صنف بالسيوف المسللة، وصنف معهم الجزرة، وصنف معهم الأعمدة، وصنف معهم الكافر كوب، ثم بعث إلي فلما صرت إلى الباب أنزلوني عن دابتي وأخذ إثنان بعضدي وأدخلوني بين الصفوف حتى أقاموني بحيث يسمع كلامي، فقال لي: أنت عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي? قلت: نعم أصلح الله الأمير، قال: ما تقول في دماء بني أمية? قلت: قد كان بينك وبينهم عهود وكان ينبغي أن يفوا بها قال: ويحك اجعلني وإياهم لا عهد بيننا، فأجهشت نفسي وكرهت القتل، فذكرت مقامي بين يدي الله فلفظتها فقلت: دماؤهم عليك حرام، فغضب وانتفخت أوداجه واحمرت عيناه فقال لي: ويحك ولم? قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث : ثيب زان، ونفس بنفس، وتارك لدينه )) قال: ويك أوليس الأمر لنا ديانة? قلت كيف ذاك? قال: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى لعلي? قلت: لو أوصى إليه لما حكم الحكمين. فسكت وقد اجتمع غضبا، فجعلت أتوقع رأسي يسقط بين يدي، فقال بيده هكذا - أومى أن أخرجوه - فخرجت فما بعدت حتى لحقني فارس، فنزلت وقلت: وقد جاء ليأخذ رأسس أصلي ركعتين، فكبرت فجاء وأنا أصلي، فسلم وقال: إن الأمير يبعث إليك هذه الدنانير، قال ففرقتها قبل أن أدخل بيتي ))
تقصير الخلف عن صراحة وشجاعة السلف
ذبك موقف سعيد ين المسيب من كبار التابعين ومن فقهاء المدينة السبعة مع الأمويين في شباب دولنهم وهذا موقف بن عمرو الأوزاعي عصري الإمام مالك وأحد الأئمة المجتهدين مع العباسيين في فجر دولتهم وغلبة الشره إلى الدماء عليهم، فوازن بين موقفهما وموقف رجال الدين الحكومي مع الدولة الحاضرة وهي دولة مدنية بعد عهدها بأيام الإحتلال، ثم وازن بين تلك الصراحة في الحق وبين ما سمعناه كثيرا من قول رجال الدين الحكومي: (( وافق أو نافق أو فارق )) يريدون وافق الحكام على أعمالهم ظاهرا وباطنا أو ظاهرا فقط أو اخرج مملكتهم.
الحق أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد قل رجالهما منذ قرون فهذا الإمام النووي في القرن السابع قرن أئمة العلوم وحفاظ الحديث، يشكو ضياع هذا الواجب فيقول: (( واعلم أن هذا الباب، أعني باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدا )) .
نقلا عن كتاب الشرك ومظاهره لمبارك الميلي
أم خالد