قيم أستاذة وشرعية وزيرة: مَن يُحقّق مع مَن؟
سليم قلالةكان يمكن لوزيرة التربية أن تفتح تحقيقا بشأن القيم التي طرحها فيديو الأستاذة "صباح بودراس"، لو كانت وزيرة منتخَبَة أو حظيت بتزكية شعبية في أي مستوى كان، أما وأنها لا هذا ولا ذاك فلا يُمكنها تحت أيّ ذريعة كانت أن تتجه هذا الاتجاه، خاصة وأن تلاميذ من مدارسنا تغنّوا أكثر من مرة بقيم غربية أمام أعضاء في الحكومة الجزائرية وباللغة الفرنسية دون أن يُعتَبر ذلك خروجا عن أخلاقيات العمل التربوي.. مثل هذه المسألة تُطرح بإلحاح اليوم وستُطرح غدا، ونحن على أبواب انتخاباتٍ تشريعية، العلاقة الجدَلية بين القيم والشرعية: مَن يُحقق مع مَن؟ ومَن يُحاكم مَن؟
عندما تكون الحكومة منبثقة عن برلمان منتخب بطريقة حرة ونزيهة تكون الشرعية هي عنوانها بلا منازع، وعندها يُصبح من حق المسؤول التنفيذي أن يُدافع عن الإطار القيمي الذي يُمثِّل العمق الشعبي الذي احتضنه ومكّنه من الفوز. وإذا كان الأمر يتعلق بالمدرسة يُصبح بمقدوره أن يُميِّز بين ما هو أصيل بها وما هو دخيل عليها، ما هو قانوني أو غير قانوني، وبإمكانه أن يسعى في نطاق الشرعية التي يمتلكها إلى تطوير أو تغيير أو إدراك القيم السائدة بالطريقة الأنسب التي يراها، وبالاستناد دوما إلى رأي الشعب... أما عندما لا يملك أي قسط من الشرعية أو يمتلك شرعية مطعوناً فيها، أو مزيفة، أو شكلية، فليس من حقه أن يقوم بأيّ ممارسات تُناسب هواه أو ثقافته أو لغته، فقط لأنه في مستوى اتخاذ القرار، كما يفعل الكثير اليوم...
والنظام الجمهوري يقوم على هذا الأساس، رفض تام لأيّ محاولة للخروج عن الإرادة الشعبية وما يرتضيه الناس بطرق ديمقراطية لا غبار عليها. وإذا ما كان هناك مَن يرفض قيما معينة أو يعتنق غير التي تحظى برضا الأغلبية، فما عليه سوى اللجوء إلى الوعاء الشعبي وإقناع الناس بوجهة نظره، فإذا ما وافقوه في مسعاه أو تطابقت مواقفُهم وتطلّعاتهم، حقَّ له الدفاع عن وجهة نظرهم ومنع أيٍّ كان من المساس بها. أما إذا كان غير ذلك فما عليه إلا القَبول بمَهمّة التنفيذ المسندة إليه كمَهمّة تقنية دون التفويض لنفسه وإقحامها في مسائل هي من اختصاص الشعب السيد...
فإذا كانت جهة معينة تريد فرْنَسة المدرسة أو تغريبها أو "عصرنة" التربية الإسلامية أو تقديم قراءة معيّنة لتاريخنا الوطني، فليس أمامها سوى أن تطرح مشروعها بوضوح على المجتمع وتطلب تزكيته، فإذا ما زكّاها، لم يبق سوى التنفيذ، وعلى الرافض لذلك التحول إلى المعارضة ومحاولة تصحيح ما يراه خللا، في العهدات الانتخابية اللاحقة.
أما وأن يُفسِّر مسؤول تنفيذي القيم التي تعتنقها المدرسة الجزائرية على طريقته، ومن خلال ثقافته ونظرته الخاصة للحياة، من غير أن تكون له أدنى شرعية شعبية، فذلك ما لا يُمكن قَبولُه..
وفي مستوى المعلم، ليس من حقه طبعا، هو الآخر أن يجتهد في تعليم الأبناء خارج نطاق قوانين الجمهورية والقيم الثابتة للأمة، فهو مسؤول على كل فعل يقوم به أو قول يتلفظ به ضمن هذا النطاق. وبما أنه تبوَّأ مثل هذه المكانة وارتضى بمثل هذه المهمة فليس له إلا أن يتحرك وفق نطاق ما تقتضيه هذه القوانين والقيم وأخلاقيات المهنة التي ينتمي إليها..
وفي هذا الإطار، لا نظن أن الأستاذة "بودراس" قد خرجت عن الإطار القانوني والقيمي والثقافي والتعليمي المسموح به، بل أنها لم تزد عن مشاركة تلامذتها القيم التي يعتقنها المجتمع الجزائري، مِن حثٍّ على إرادة العمل، ومحاربة للفشل، ودفاعٍ عن القيم الروحية السامية، وعن لغة القرآن الكريم والاعتزاز بها لغة وطنية ورسمية للبلاد، كما أنه لم يكن في تصويرها لنفسها وتلامذتها وهم يتفاعلون معها، أيّ مساس بكرامتهم أو تشويه لهم كتلامذة، بل كانت تلك وسيلة إضافية لديها لتعميم القيم التي يتم تربيتهم عليها، على آخرين وفق الوسائل الجديدة المتعارف عليها.
ولعل البعض يقول في هذا الجانب: وما الذي جعلك تحكم أن تلك قيمٌ سامية، وأخلاقٌ عالية ودفاعٌ عن قوانين الجمهورية؟
هنا لن أتردد في الإجابة بالقول إنه أمام هكذا سؤال نُصبح في حاجة إلى فهم العلاقة الجدلية بين القيم والشرعية: هل يمكن أن تسود مجتمعَنا قيمٌ أخرى بغير المرور عبر الشرعية؟ هل مِن مقياسٍ آخر للاختيار بين القيم غير الاحتكام إلى إرادة الشعب؟ هل مِن طريقة أخرى غير إيصال مَن يرتضيه الشعب إلى مستوى القرار؟ هل مِن أسلوب آخر سوى ترك الناس يختارون بين خلفيات ما أعلنته الوزيرة وأبعاد ما كانت ما ترمز إليه الأستاذة بورداس؟ وهل من حَلٍّ أفضل من الرضا بحكم الشعب في آخر المطاف: هل سيكون مع الوزيرة أم مع الأستاذة لو ترشّحتا لأيِّ انتخابات؟
أظن أننا لا نستطيع أن نجادل في مثل هكذا طريقة إلا إذا كُنا نرفض الاحتكام للإرادة الشعبية أو نعتبر الشعب قاصرا بحيث يستحق الوصاية عليه ويحتاج إلى من يُعيد تلقينه قيمه بالوسائل القسرية إن اقتضى الأمر، وفي هذا تضاربٌ كبير مع اعتبار بلدنا بلد الثورات الشعبية وبلد شعار "بطل واحد هو الشعب"، دون الحديث عن ما سطره تاريخُنا من مواقف وبطولات وما أعدَّته مؤسساتنا من مواثيق وسنَّته من قوانين جميعها لا تخرج عن بناء "الدولة الاجتماعية الديمقراطية في نطاق المبادئ الإسلامية" فكيف بوزيرة اليوم تمتعض من قيم هي من صميم هذا الإطار؟
إن طرح مثل هذه المسألة، ومهما كانت تداعياتها، ينبغي في تقديري أن لا يكون لأجل الحاضر، إنما لأجل المستقبل خاصة والانتخابات التشريعية القادمة على الأبواب. إذا كُنَّا بحق نُريد انتقالا نوعيا باتجاه بناء دولة تَجمع بين الأصالة والمعاصرة فعلينا حل إشكالية الشرعية حلا جذريا، حتى تصبح هي القاعدة التي تقوم عليها سياساتُنا في مختلف الميادين؛ إذ لا يمكننا أن نستمرَّ في تسيير الشأن العام على مستوى الحكومات بأفرادٍ يفتقرون إلى السند الشعبي الحقيقي، ولا يمكن أن نزعم أننا يُمكن أن نُنجز سياسة مهما كانت وفي أي قطاع دون أن يكون لمن يقوم عليها الشرعية الشعبية اللازمة.
حقيقة لقد تم في أكثر من حقبة تسيير شؤون البلاد انطلاقا من شرعية ثورية، أو شرعية الأمر الواقع، أو الشرعية الانتقالية... أما اليوم، وخاصة غدا، فلا يمكننا أن نتصور إمكانية تنفيذ سياسة عامة من دون سند شعبي حقيقي لمن يقوم عليها، خاصة في ظل الضغوط الداخلية والخارجية التي تعرفها بلادنا.
إن بناء الشرعية في بلادنا اليوم يُعَدُّ خيارا استراتيجيا وليس خيارا من بين عشرات الخيارات، وفي ظل هذه الشرعية نحن متأكدون أن وزيرة أو وزير التربية القادم لن يستحسن فقط ما قامت به الأستاذة "بودراس" بل سيدعوها إلى تعميمه باعتباره ما ينبغي أن يكون وليس ما ينبغي ألا يكون على حد تعبير فاقدي الشرعية اليوم..