الإنسان مدني بالطبع، أي أنه لابد أن يعيش في جماعة، لأنه لا يستطيع أن يفي باحتياجاته كاملة بمفرده، كما أن الميل الغريزي بين جنسيه يدفع إلى الإجتماع، وهذا من حكمة الله تعالى حتى يتحقق العمران في الأرض وتستمر الحياة يانعة مورقة في الأجيال المتعاقبة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ينشأ عن التجمع البشري علاقات متشابكة متداخلة متنوعة لو تركت على سحيتها لتصادمت ولتسارعت، ولعمت الفوضى والهرج ولأكل القوي الضعيف، ولسادت شريعة الغاب ولفاتت المقاصد والحكم من وراء اجتماع الناس ولعاد وبالا ونكبة عليهم وعلى العمران وعلى الحياة والأجيال.
من أجل ذلك كان لابد من تنظيم لحياة الناس يضمن توجيه طاقاتهم وعلاقتهم في سبيل البناء والتعمير، والترابط والتعاون والتكافل، وتمفير الأمن والعدل وتحصيل أكبر قدر من المصالح والمنافع لكل فرد من أفراد هذا المجتمعوالحيلولة دون وقوع التعارض والصراع أو على الأقل التقليل منه إلى أقصى حد مستطاع.
وهذا يقتضي بالضرورة تقييد حرية الأفراد بضوابط وقيود تقعدهم عن العدوان بعضهم على بعض، لأن الحرية المطلقة والإجتماع الإنساني عدوان لدودان لا يمكن أن يتهادنا وما أروع المثل الذي ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك في حديثه حيث قال:
" مثل قائم في حدود الله والماقع فيها كمثل قوم أسهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا " رواه البخاري.
هذه الضوابط إنما تتمثل في النظم والشرائع التي تحكم حركة الحياة، ونشاط الناس، وتحدد الحقوق والواجبات والصلاحيات والمسؤليات، لقد عرف الناس منذ فجر التاريخ أسسا ثلاثة للاجتماع: اجتماع على أساس الجنس، واجتماع على أساس الأرض(الوطن)، واجتماع على أساس العقيدة، ولا ريب أن الأساس الثالث هو الذي يتناسب مع خصائص الإنسان ومركزه، ذلك لأن العقيدة ثمرة من ثمار الفكر وهو أسمى مميزات الإنسان، بالإضافة إلى أنه الأساس الوحيد الذي يعد من كسب الإنسان واختياره، والحرية أيضا من أثمن المواهب التي يتمتع بها الإنسان، وكلاهما( الفكر والإختيار) مناط تكليف الإنسان وتكريمه، وهذا مفق الطريق بين المجتمع الإسلامي وغيره من المجتمعات فقد أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع الإشلامي في المدينة المنورة على أساس الإيمان، وآخى فيه بين بلال الحبشي وصهيب الرومي وأبي بكر القرشي وسعد بن معاذ المدني.
إذا كان لابد للناس من اجتماع، ولابد للاجتماع من نظام، فمن الحقيقة بوضع هذا النظام? وهنا الفارق الثاني بين المجتمع الإسلامي وغيره من المجتمعات أن الإسلام يجعل التشريع ابتداء حقا خالصا لله تعالى وحده لأنه من خصائص ربوبيته وألهيته ( شرع لكم من الدين ماوصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)
نقلا عن كتاب نظام الحياة في الإسلام للمودودي